فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} أي برهانٍ نيِّرٍ عظيمِ الشأنِ يدل على حقية ما رَغّب في الثبات عليه من الإسلام وهو القرآنُ، وباعتباره أو بتأويل البرهانِ ذُكر الضميرُ الراجعُ إليها في قوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ} أي يتبعه: {شَاهِدٌ} يشهد بكونه من عند الله تعالى وهو الإعجازُ في نظمه المطّردِ في كل مقدارِ سورةٍ منه أو ما وقع في بعض آياتِه من الإخبار بالغيب، وكلاهما وصفٌ تابعٌ له شاهدٌ بكونه من عند الله عز وجل غيرَ أنه على التقدير الأولِ يكون في الكلامِ إشارةٌ إلى حال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تمسّكهم بالقرآن عند تبيُّنِ كونِه منزلًا بعلم الله بشهادة الإعجاز: {مِنْهُ} أي من القرآنِ غيرَ خارجٍ عنه أو من جهة الله تعالى فإن كلًا منهما واردٌ من جهته تعالى للشهادة، ويجوز على هذا التقديرِ أن يراد بالشاهد المعجزاتُ الظاهرةُ على يدَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أيضًا من الشواهد التابعةِ للقرآن الواردةِ من جهته تعالى، فالمرادُ بَمنْ في قوله تعالى: {أَفَمَنِ} كلُّ من اتصف بهذه الصفةِ الحميدةِ فيدخُل فيه المخاطَبون بقوله تعالى: {فاعلموا... فَهَلْ أَنتُمْ} دخولًا أوليًا وقيل: هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: مؤمنو أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه، وقيل: المرادُ بالبينة دليلُ العقلِ وبالشاهد القرآنُ فالضمير في منه لله تعالى، أو البينةُ القرآنُ ويتلوه من التلاوة والشاهدُ جبريلُ أو لسانُ النبي صلى الله عليه وسلم على أن الضميرَ له أو من التُّلُوّ والشاهدُ مَلَكٌ يحفظ، والأَوْلى هو الأولُ، ولما كان المرادُ بتلوّ الشاهدِ للبرهان إقامةَ الشهادة بصحته وكونِه من عند الله تابعًا له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد فإن القرآنَ بيِّنةٌ باقيةٌ على وجه الدهرِ مع شاهدها الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامةِ عند كلِّ مؤمنٍ وجاحدٍ عُطف كتابُ موسى في قوله عز قائلًا: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} على فاعله مع كونه مقدَّمًا عليه في النزول فكأنه قيل: أفمن كان على بينةٍ من ربه ويشَهد به شاهدٌ منه وشاهدٌ آخرُ مِنْ قبله هو كتابُ موسى، وإنما قُدّم في الذكر المؤخَّرِ في النزول لكونه وصفًا لازمًا له غيرَ مفارِقٍ عنه ولعراقته في وصف التلوِّ، والتنكيرُ في (بينةٍ) و(شاهدٌ) للتفخيم: {إِمَامًا} أي مؤتمًا به في الدين ومقتدىً، وفي التعرض لهذا الوصفِ بصدد بيانِ تلوِّ الكتابِ ما لا يخفى من تفخيم شأنِ المَتْلوِّ: {وَرَحْمَةً} أي نعمةً عظيمة على من أُنزل إليهم ومَنْ بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامِه الباقيةِ المؤيَّدةِ بالقرآن العظيمِ وهما حالان من الكتاب.
{أولئك} الموصوفون بتلك الصفةِ الحميدةِ وهو الكونُ على بينة من الله، ولِما أن ذلك عبارةٌ عن مطلق التمسكِ بها وقد يكون ذلك بطريق التقليدِ لمن سلف من عظماء الدين من غير عُثورٍ على دقائق الحقائقِ وصفهم بأنهم: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي يصدقونه حقَّ التصديقِ حسبما تشهد به الشواهدُ الحقّة المعربةُ عن حقيته: {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} أي بالقرآن ولم يصدِّق بتلك الشواهد الحقَّةِ: {مّن الاحزاب} من أهل مكةَ ومن تحزّب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فالنار مَوْعِدُهُ} يردّها لا محالة حسبما نطَق به قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار} وفي جعلها موعدًا إشعارٌ بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذابِ: {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي في شك من أمر القرآنِ وكونِه من عند الله عز وجل حسبما شهِدت به الشواهدُ المذكورةُ وظهر فضلُ من تمسك به: {أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} الذي يربِّيك في دينك ودنياك: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك إما لقصور أنظارِهم واختلالِ أفكارِهم وإما لعنادهم واستكبارِهم، فمَنْ في قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} مبتدأٌ حُذف خبرُه لإغناء الحالِ عن ذكره وتقديرُه أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذُكرت أعمالَهم وبُيِّن مصيرُهم ومآلُهم، يعني أن بينهما اتفاقًا عظيمًا بحيث لا يكاد يتراءى ناراهما، وإيرادُ الفاءِ بعد الهمزةِ لإنكار ترتّبِ توهّم المماثلةِ على ما ذكر من صفاتهم وعُدّد من هَناتهم كأنه قيل: أبعدَ ظهورِ حالِهم في الدنيا والآخرة كما وُصف يُتوهم المماثلةُ بينهم وبين مَنْ كان على أحسن ما يكون في العاجل والآجل كما في قوله تعالى: {أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي أبعدَ أن علمتموه ربَّ السمواتِ والأرض اتخذتم من دونه أولياءَ وقولِه تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى}. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولًا أوليًا، واقتصر عليه بعضهم بناءًا على أنه المناسب لما بعد، وأصل البينة كما قيل: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقًا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه: {وَيَتْلُوهُ} أي يتبعه: {شَاهِدٌ} عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو كما قال الحسين بن الفضل الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعًا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلًا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
وكذا الضمير في: {مِنْهُ} وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه.
وجوز أن يكون هذا الضمير راجعًا إلى الرب سبحانه، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهاد، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل، وأمر التبعية فيها ظاهر، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين.
وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي: {أولئك} إلخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم، وأيضًا إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وفسر أبو مسلم وغيره البينة بالدليل العقلي، والشاهد بالقرآن وضمير: {مِنْهُ} لله تعالى، ومن ابتدائية، أو للقرآن فقد تقدم ذكره، ومن حينئذٍ إما بيانية وإما تبعيضية بناءًا على أن القرآن ليس كله شاهدًا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي والسمعي، ومعنى كون الثاني تابعًا للأول على ما قيل: إنه موافق له لا يخالفه أصلًا، ومن هنا قالوا: إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية ودلالة الثاني ظنية غالبًا للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها، وقد يقال: إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو.
وعن ابن عباس ومجاهد والنخعي والضحاك وعكرمة وأبي صالح وسعيد بن جبير أن البينة القرآن، والشاهد هو جبريل عليه السلام ويتول من التلاوة لا التلو، وضمير: {مِنْهُ} لله تعالى، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه كما قال ابن حجر خاص بجبريل عليه السلام، وضمير: {مِنْهُ} كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة، وقيل: لمن كان عليها، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل، {وَيَتْلُوهُ} وضمير: {مِنْهُ} على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير يتلوه للقرآن.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل اللغة ذلك؛ وكذا الملك من معانيه، ويتلو حينئذٍ من التلاوة، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة، وضمير: {مِنْهُ} للرسول صلى الله عليه وسلم بناءًا على أنه المراد بالموصول، ومن تبعيضية، وقيل: الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخايله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد منه»، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد الله مثله، وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} أنا: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} علي».
وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليًا كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى سماه شاهدًا كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه: {إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] والمراد: {شاهدا} على الأمة كما يشهد له عطف: {مُبَشّرًا وَنَذِيرًا} عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم، وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعد دل على أنه خليفته، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح، وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباءً عنه، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال: قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه: إن الناس يزعمون في قول الله تعالى: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} أنك أنت التالي؟ قال: وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم، على أن في تقرير الاستدلال ضعفًا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه، وفي عطف يتلوه احتمالان: الأول: أن يكون على ما وقع صفة لبينة، والثاني: أن يكون على جملة: {كَانَ} ومرفوعها، وقوله سبحانه: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} عطف على: {شَاهِدٌ} والضمير المجرور له، وقد توسط الجار والمجرور بينهما، والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالًا من الكتاب أي: {وَيَتْلُوهُ} في التصديق: {كِتَابُ موسى} منزلًا من قبله، وحاصله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى، قيل: وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفًا لازمًا له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز كما اختاره بعض المحققين وقد يقال: إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضًا، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناءً على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى.
وأوجب بعضهم كون: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد، وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره: {كِتَابٌ} بالنصب على أنه معطوف على مفعول يتلوه أو منصوب بفعل مقدر أي ويتلو كتاب موسى، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن، و: {مِنْ} تبعيضية لا تجريدية، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} على أن القرآن حق لا مفترى، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به في قوله سبحانه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسرائيل على مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيهًا على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد، وفي قوله تعالى: {يتلوه} استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام: {لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي مؤتمًا به في الدين ومقتدى، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم، وكذا في قوله سبحانه: {وَرَحْمَةً} أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب: {أولئك} أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدًا من عظماء الدين؛ فالضمير للقرآن، وقيل: إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد، وإن لم يك خاليًا عن الفائدة، وقيل: إنه للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها: {مّن الاحزاب} من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله بعضهم، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقًا فإنهم تحزبوا على الكفر، وروي ذلك عن ابن جبير، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود والنصارى.
وقال السدي: هم قريش، وقال مقاتل: هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل أبي طلحة بن عبيد الله: {فالنار مَوْعِدُهُ} أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه: {لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار} [هود: 16] وآيات أخر، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية ** فالنار موعدها والموت لاقيها

وفي جعل النار موعدًا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب: {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى غبَّ ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به، أو لا تك في شك من كون النار موعدهم، وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك، وأيًا مّا كان فالخطاب إن كان عامًا لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو بيان لأنه ليس محلًا للشك تعريضًا بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة والسلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلى الله عليه وسلم، وقرأ السمعي، وأبو رجاء، وأبو الخطاب السدوسي، والحسن: {مِرْيَةٍ} بضم الميم وهي لغة أسد وتميم، والكسر لغة أهل الحجاز: {أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} أي الذي يربيك في دينك ودنياك: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لاستكبارهم وعنادهم و: {الناس} على ما روى عن ابن عباس أهل مكة، قال صاحب الفينان: جميع الكفار، هذا والهمزة في: {أَفَمَنِ} قيل: للتقرير ومن مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وحذف معادل الهمزة ومثله كثير، واختار هذا أبو حيان، والذي يقتضيه كلام الزمخشري ولعله الأولى خلافه حيث قال: المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال، وحاصله على ما في الكشف أن الفاء عاطفة للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه: {مَن كَانَ} [هود: 15] الآية، فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلًا عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] وأما إنها عطف على قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} [هود: 15] فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة، ولا يدل على إنكار التماثل، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه انتهى، وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله، ويعلم مما تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه: {مَن كَانَ} [هود: 15] إلخ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضًا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} [هود: 13] وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} ولا بينة له على ذلك. اهـ.

.قال القاسمي:

{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي: برهان نير، عظيم الشأن، يدل على حقية ما ثبت عليه من الإسلام، وهو القرآن: {وَيَتْلُوهُ} أي: يتبعه: {شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي: من القرآن نفسه، يشهد له بكونه من عند الله تعالى، وهو إعجازه. وفسرت (البينة) أيضًا بالإسلام، سماه بينة لغاية ظهوره، إذ هو دين الفطرة، قبل تدنيسها برجس الوثنية و(الشاهد) بالقرآن، فالضمير للرب تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ} أي: القرآن: {كِتَابُ مُوسَى} وهو التوراة، أي: ويتلو بلك البنية من قبله كتاب موسى مقررًا لذلك أيضًا. وقوله تعالى: {إِمَامًا} أي: مقتدى به في الدين: {وَرَحْمَةً} أي: نعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع: {أُوْلَئِكَ} أي: من كان على بينة: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بالقرآن فلهم الجنة: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} يعني أهل مكة، ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلوات الله عليه: {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي: شك من القرآن أو من الموعد: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: به، إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.